الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
.كِتَابُ آفَاتِ اللِّسَانِ: .بَيَانُ خَطَرِ اللِّسَانِ: اعْلَمْ أَنَّ خَطَرَ اللِّسَانِ عَظِيمٌ، وَلَا نَجَاةَ مِنْهُ إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالْخَيْرِ، فَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ الْعَبْدِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا نَقُولُ؟ فَقَالَ: «يَا ابن جبل، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: يَا لِسَانُ: قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ.وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَفَّ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ مَلَكَ غَضَبَهُ وَقَاهُ اللَّهُ عَذَابَهُ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ».وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ».وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اخْزُنْ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ»..جُمَلٌ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ: .الْآفَةُ الْأُولَى: الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي: اعْلَمْ أَنَّ رَأْسَ مَالِ الْعَبْدِ أَوْقَاتُهُ، فَمَهْمَا صَرَفَهَا إِلَى مَا لَا يَعْنِيهِ وَلَمْ يَدَّخِرْ بِهَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ ضَيَّعَ رَأْسَ مَالِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».وَسَبَبُهُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ هُوَ الْحِرْصُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ، أَوْ تَزْجِيَةِ الْأَوْقَاتِ بِحِكَايَاتِ أَحْوَالٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا. وَعِلَاجُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَنْفَاسَهُ رَأْسُ مَالِهِ، وَأَنَّ لِسَانَهُ شَبَكَةٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْتَنِصَ بِهَا الْخَيْرَاتِ الْحِسَانَ، فَإِهْمَالُهُ ذَلِكَ وَتَضْيِيعُهُ خُسْرَانٌ مُبِينٌ..الْآفَةُ الثَّانِيَةُ: فُضُولُ الْكَلَامِ: وَهُوَ أَيْضًا مَذْمُومٌ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْخَوْضَ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَالزِّيَادَةَ فِيمَا يَعْنِي عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ مَنْ يَعْنِيهِ أَمْرٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ بِكَلَامٍ مُخْتَصَرٍ، وَيُمْكِنَهُ أَنْ يُجَسِّمَهُ وَيُكَرِّرَهُ، وَمَهْمَا تَأَدَّى مَقْصُودُهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَذَكَرَ كَلِمَتَيْنِ، فَالثَّانِيَةُ فُضُولٌ- أَيْ فَضْلٌ عَنِ الْحَاجَةِ- وَهُوَ أَيْضًا مَذْمُومٌ؛ لِمَا سَبَقَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ وَلَا ضَرَرٌ.وَاعْلَمْ أَنَّ فُضُولَ الْكَلَامِ لَا يَنْحَصِرُ، بَلِ الْمُهِمُّ مَحْصُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النِّسَاءِ: 114] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُوبَى لِمَنْ أَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ».فَانْظُرْ كَيْفَ قَلَبَ النَّاسُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ، فَأَمْسَكُوا فَضْلَ الْمَالِ، وَأَطْلَقُوا فَضْلَ اللِّسَانِ، قَالَ عطاء: إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ تَنْطِقُ لِحَاجَتِكَ فِي مَعِيشَتِكَ الَّتِي لَابُدَّ مِنْهَا. أَتُنْكِرُونَ أَنَّ عَلَيْكُمْ حَافِظِينَ {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الِانْفِطَارِ: 11] {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17- 18] أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ إِذَا نُشِرَتْ صَحِيفَتُهُ الَّتِي أَمْلَاهَا صَدْرَ نَهَارِهِ كَانَ أَكْثَرُ مَا فِيهَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ؟ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ أَحَقَّ مَا طَهَّرَ الرَّجُلُ لِسَانَهُ.وَفِي أَثَرٍ: مَا أُوتِيَ رَجُلٌ شَرًّا مِنْ فَضْلٍ فِي لِسَانٍ..الْآفَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَوْضُ فِي الْبَاطِلِ: وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْمَعَاصِي، كَحِكَايَةِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ، وَمَجَالِسِ الْخَمْرِ، وَمَقَامَاتِ الْفُسَّاقِ، وَتَكَبُّرِ الْجَبَابِرَةِ، وَمَرَاسِمِهِمُ الْمَذْمُومَةِ، وَأَحْوَالِهِمُ الْمَكْرُوهَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحِلُّ الْخَوْضُ فِيهِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَتَجَالَسُونَ لِلتَّفَرُّجِ بِالْحَدِيثِ، وَلَا يَعْدُو كَلَامُهُمُ التَّفَكُّهَ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ أَوِ الْخَوْضَ فِي الْبَاطِلِ. وَأَنْوَاعُ الْبَاطِلِ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا؛ لِكَثْرَتِهَا وَتَفَنُّنِهَا، فَلِذَلِكَ لَا مَخْلَصَ مِنْهَا إِلَّا بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يَعْنِي مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَعْظَمُ النَّاسِ خَطَايَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ خَوْضًا فِي الْبَاطِلِ»، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [الْمُدَّثِّرِ: 45] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النِّسَاءِ: 140].وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»..الْآفَةُ الرَّابِعَةُ: الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ: وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُمَارِ أَخَاكَ، وَلَا تُمَازِحْهُ، وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ».وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ».وَعَنْهُ: «لَا يَسْتَكْمِلُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا».وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ لَجُوجًا مُمَارِيًا مُعْجَبًا بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا أُمَارِي صَاحِبِي، فَإِمَّا أَنْ أَكْذِبَهُ وَإِمَّا أَنْ أُغْضِبَهُ.وَمَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى.وَحَدُّ الْمِرَاءِ هُوَ كُلُّ اعْتِرَاضٍ عَلَى كَلَامِ الْغَيْرِ بِإِظْهَارِ خَلَلٍ فِيهِ، إِمَّا فِي اللَّفْظِ، وَإِمَّا فِي الْمَعْنَى، وَإِمَّا فِي قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، وَتَرْكُ الْمِرَاءِ بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ وَالِاعْتِرَاضِ، فَكُلُّ كَلَامٍ سَمِعْتَهُ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَصَدِّقْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا أَوْ كَذِبًا وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِأُمُورِ الدِّينِ فَاسْكُتْ عَنْهُ.وَالْوَاجِبُ إِنْ جَرَى الْجَدَلُ فِي مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ السُّكُوتُ أَوِ السُّؤَالُ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِفَادَةِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ وَالنَّكَادَةِ، أَوِ التَّلَطُّفُ فِي التَّعْرِيفِ لَا فِي مَعْرِضِ الطَّعْنِ، وَأَمَّا قَصْدُ إِفْحَامِ الْغَيْرِ وَتَعْجِيزِهِ وَتَنْقِيصِهِ بِالْقَدْحِ فِي كَلَامِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى الْقُصُورِ وَالْجَهْلِ فِيهِ- فَهِيَ الْمُجَادَلَةُ الْمَحْظُورَةُ الَّتِي لَا نَجَاةَ مِنْ إِثْمِهَا إِلَّا بِالسُّكُوتِ، وَمَا الْبَاعِثُ عَلَيْهَا إِلَّا التَّرَفُّعُ بِإِظْهَارِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَالتَّهَجُّمِ عَلَى الْغَيْرِ بِإِظْهَارِ نَقْصِهِ، وَهُمَا صِفَتَانِ مُهْلِكَتَانِ. وَلَا تَنْفَكُّ الْمُمَارَاةُ عَنِ الْإِيذَاءِ، وَتَهْيِيجِ الْغَضَبِ، وَحَمْلِ الْمُعْتَرَضِ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَعُودَ فَيَنْصُرَ كَلَامَهُ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَيَقْدَحَ فِي قَائِلِهِ بِكُلِّ مَا يُتَصَوَّرُ لَهُ، فَيَثُورُ الشِّجَارُ بَيْنَ الْمُتَمَارِيَيْنِ. وَأَمَّا عِلَاجُهُ فَهُوَ بِأَنْ يَكْسِرَ الْكِبْرَ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى إِظْهَارِ فَضْلِهِ، وَالسَّبْعِيَّةَ الْبَاعِثَةَ لَهُ عَلَى تَنْقِيصِ غَيْرِهِ..الْآفَةُ الْخَامِسَةُ: الْخُصُومَةُ: وَهِيَ أَيْضًا مَذْمُومَةٌ، وَهِيَ وَرَاءَ الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ، وَحَقِيقَتُهَا لَجَاجٌ فِي الْكَلَامِ لِيُسْتَوْفَى بِهِ مَالٌ أَوْ حَقٌّ مَقْصُودٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ». وَلَا تَكُونُ الْخُصُومَةُ مَذْمُومَةً إِلَّا إِنْ كَانَتْ بِالْبَاطِلِ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَالَّذِي يُدَافِعُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ فِي أَيِّ جَانِبٍ، أَوْ يَمْزُجُ بِخُصُومَتِهِ كَلِمَاتٍ مُؤْذِيَةً لَا حَاجَةَ لَهَا فِي نُصْرَةِ الْحُجَّةِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ، أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَحْضُ الْعِنَادِ؛ لِقَهْرِ الْخَصْمِ وَكَسْرِهِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَحْقِرُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الْمَالِ.وَفِي النَّاسِ مَنْ يُصَرِّحُ بِهِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا قَصْدِي عِنَادُهُ وَكَسْرُ غَرَضِهِ، وَإِنِّي إِنْ أَخَذْتُ مِنْهُ هَذَا الْمَالَ رُبَّمَا رِمَيْتُ بِهِ فِي بِئْرٍ وَلَا أُبَالِي وَهَذَا مَقْصُودُهُ اللَّدَدُ وَالْخُصُومَةُ وَاللَّجَاجُ، وَهُوَ مَذْمُومٌ جِدًّا. فَأَمَّا الْمَظْلُومُ الَّذِي يَنْصُرُ حُجَّتَهُ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ لَدَدٍ وَإِسْرَافٍ وَزِيَادَةِ لَجَاجٍ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَمِنْ غَيْرِ قَصْدِ عِنَادٍ وَإِيذَاءٍ- فَفِعْلُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنِ الْأَوْلَى تَرْكُهُ مَا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَإِنَّ ضَبْطَ اللِّسَانِ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى قَدْرِ الِاعْتِدَالِ مُتَعَذِّرٌ، وَالْخُصُومَةُ تُوغِرُ الصَّدْرَ، وَتُهَيِّجُ الْغَضَبَ، وَإِذَا هَاجَ نُسِيَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ وَبَقِيَ الْحِقْدُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، حَتَّى يَفْرَحَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَسَاءَةِ صَاحِبِهِ وَيَحْزَنَ بِمَسَرَّتِهِ، وَيُطْلِقَ اللِّسَانَ فِي عِرْضِهِ، فَمَنْ بَدَأَ بِالْخُصُومَةِ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَحْذُورَاتِ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ تَشْوِيشُ خَاطِرِهِ، حَتَّى إِنَّهُ فِي صَلَاتِهِ يَشْتَغِلُ بِمُحَاجَّةِ خَصْمِهِ، فَلَا يَبْقَى الْأَمْرُ عَلَى حَدِّ الْوَاجِبِ، فَالْخُصُومَةُ مَبْدَأُ كُلِّ شَرٍّ وَكَذَا الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْتَحَ بَابَهُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْفَظَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ عَنْ تَبِعَاتِ الْخُصُومَةِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ جِدًّا. نَعَمْ أَقَلُّ مَا يَفُوتُهُ فِي الْخُصُومَةِ وَالْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ طَيِّبُ الْكَلَامِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [الْبَقَرَةِ: 83]، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَارْدُدْ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا؛ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النِّسَاءِ: 86] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَوْ قَالَ لِي فِرْعَوْنُ خَيْرًا لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»، وَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ، وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ.وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْكَلَامُ اللَّيِّنُ يَغْسِلُ الضَّغَائِنَ الْمُسْتَكِنَّةَ فِي الْجَوَارِحِ، وَقَالَ آخَرُ: كُلُّ كَلَامٍ لَا يُسْخِطُ رَبَّكَ إِلَّا أَنَّكَ تُرْضِي بِهِ جَلِيسَكَ، فَلَا تَكُنْ بِهِ عَلَيْهِ بَخِيلًا، فَلَعَلَّهُ يُعَوِّضُكَ مِنْهُ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ..الْآفَةُ السَّادِسَةُ: التَّقَعُّرُ فِي الْكَلَامِ: وَهُوَ التَّشَدُّقُ، وَتَكَلُّفُ السَّجْعِ، وَالْفَصَاحَةِ، وَالتَّصَنُّعُ فِيهِ، فَإِنَّهُ مِنَ التَّكَلُّفِ الْمَمْقُوتِ، إِذْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى مَقْصُودِهِ، وَمَقْصُودُ الْكَلَامِ التَّفْهِيمُ لِلْغَرَضِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَصَنُّعٌ مَذْمُومٌ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا تَحْسِينُ أَلْفَاظِ التَّذْكِيرِ وَالْخَطَابَةِ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا إِغْرَابٍ، فَلِرَشَاقَةِ اللَّفْظِ تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ..الْآفَةُ السَّابِعَةُ: الْفُحْشُ وَالسَّبُّ وَبَذَاءَةُ اللِّسَانِ: وَهُوَ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمَصْدَرُهُ الْخُبْثُ وَاللُّؤْمُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ».وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ تُسَبَّ قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «لَا تَسُبُّوا هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُصُ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ مِمَّا تَقُولُونَ وَتُؤْذُونَ الْأَحْيَاءَ، أَلَا إِنَّ الْبَذَاءَ لُؤْمٌ».وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ».وَعَنْهُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ الصَّيَّاحَ فِي الْأَسْوَاقِ».وَحَدُّ الْفُحْشِ هُوَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَحَةِ بِالْعِبَارَاتِ الصَّرِيحَةِ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ يَجْرِي فِي أَلْفَاظِ الْوِقَاعِ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَإِنَّ لِأَهْلِ الْفَسَادِ عِبَارَاتٍ صَرِيحَةً فَاحِشَةً يَسْتَعْمِلُونَهَا فِيهِ، وَأَهْلُ الصَّلَاحِ يَتَحَاشَوْنَ عَنْهَا، بَلْ يَدُلُّونَ عَلَيْهَا بِالرُّمُوزِ وَالْكِنَايَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَعْفُو وَيَكْنُو، كَنَّى بِاللَّمْسِ عَنِ الْجِمَاعِ. فَالْمَسِيسُ وَالْمَسُّ وَالدُّخُولُ كِنَايَاتٌ عَنِ الْوِقَاعِ وَلَيْسَتْ بِفَاحِشَةٍ. وَهُنَاكَ عِبَارَاتٌ فَاحِشَةٌ يُسْتَقْبَحُ ذِكْرُهَا، وَيُسْتَعْمَلُ أَكْثَرُهَا فِي الشَّتْمِ وَالتَّعْيِيرِ، وَكُلُّ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ أَلْفَاظُهُ الصَّرِيحَةُ؛ فَإِنَّهُ فُحْشٌ.وَالْبَاعِثُ عَلَى الْفُحْشِ إِمَّا قَصْدُ الْإِيذَاءِ، وَإِمَّا الِاعْتِيَادُ الْحَاصِلُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْفُسَّاقِ، وَأَهْلِ الْخُبْثِ وَاللُّؤْمِ، وَمَنْ عَادَتُهُمُ السَّبُّ.رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَإِنِ امْرُؤٌ عَيَّرَكَ بِشَيْءٍ يَعْلَمُهُ فِيكَ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِشَيْءٍ تَعْلَمُهُ فِيهِ، يَكُنْ وَبَالُهُ عَلَيْهِ وَأَجْرُهُ لَكَ، وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا» قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ شَيْئًا بَعْدَهُ.وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ وَالِدَيْهِ».وَفِي رِوَايَةٍ: «مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ الْآخَرُ أَبَاهُ»..الْآفَةُ الثَّامِنَةُ: اللَّعْنُ: اللَّعْنُ إِمَّا لِحَيَوَانٍ أَوْ جَمَادٍ أَوْ إِنْسَانٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لَيْسَ بِلَعَّانٍ».وَاللَّعْنُ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةٍ تُبْعِدُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالظُّلْمُ، وَفِي لَعْنِ فَاسِقٍ مُعَيَّنٍ خَطَرٌ، فَلْيُجْتَنَبْ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَشَدَّ إِنْ كَانَ فِيهِ أَذًى لِلْحَيِّ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا بِهِ الْأَحْيَاءَ» وَيَقْرُبُ مِنَ اللَّعْنِ الدُّعَاءُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالشَّرِّ، حَتَّى الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ، وَفِي الْخَبَرِ: «إِنَّ الْمَظْلُومَ لَيَدْعُو عَلَى الظَّالِمِ حَتَّى يُكَافِئَهُ»..الْآفَةُ التَّاسِعَةُ: الْغِنَاءُ وَالشِّعْرُ: وَالْمَذْمُومُ مِنْهُمَا مَا اشْتَمَلَ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ دُعَاءٍ إِلَيْهِ، كَتَشْبِيبٍ بِمُعَيَّنٍ، وَهِجَاءٍ، وَتَشَبُّهٍ بِالنِّسَاءِ، وَتَهْيِيجٍ لِفَاحِشَةٍ، وَلُحُوقٍ بِأَهْلِ الْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ، وَصَرْفِ الْوَقْتِ إِلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا خَلَا عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُبَاحٌ..الْآفَةُ الْعَاشِرَةُ: الْمِزَاحُ: وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْمَذْمُومُ مِنْهُ هُوَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ وَالْإِفْرَاطُ فِيهِ، فَأَمَّا الْمُدَاوَمَةُ فَلِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِاللَّعِبِ وَالْهَزْلِ، وَأَمَّا الْإِفْرَاطُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُورِثُ كَثْرَةَ الضَّحِكِ، وَالضَّغِينَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَيُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَالْوَقَارَ، وَأَمَّا مَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَلَا يُذَمُّ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَأَمْزَحُ وَلَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» أَلَا إِنَّ مِثْلَهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْزَحَ وَلَا يَقُولَ إِلَّا حَقًّا، وَأَمَّا غَيْرُهُ إِذَا فَتَحَ بَابَ الْمِزَاحِ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ يُضْحِكَ النَّاسَ كَيْفَمَا كَانَ.وَقَدْ قَالَ عمر: مَنْ مَزَحَ اسْتُخِفَّ بِهِ.وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، لَا تُمَازِحِ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ عَلَيْكَ، وَلَا الدَّنِيءَ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْكَ.وَقِيلَ: لِكُلِّ شَيْءٍ بَذْرٌ، وَبَذْرُ الْعَدَاوَةِ الْمِزَاحُ وَيُقَالُ: الْمِزَاحُ مَسْلَبَةٌ لِلنُّهَى، مَقْطَعَةٌ لِلْأَصْدِقَاءِ.وَمِنَ الْغَلَطِ الْعَظِيمِ أَنْ يَتَّخِذَ الْمِزَاحَ حِرْفَةً يُوَاظِبُ عَلَيْهِ، وَيُفْرِطُ فِيهِ، ثُمَّ يَتَمَسَّكُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ كَمَنْ يَدُورُ نَهَارَهُ مَعَ الزُّنُوجِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى رَقْصِهِمْ، وَيَتَمَسَّكُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لعائشة فِي النَّظَرِ إِلَى رَقْصِ الزُّنُوجِ فِي يَوْمِ عِيدٍ، وَهُوَ خَطَأٌ.وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنْ كُنْتَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَمْزَحَ، وَلَا تَقُولَ إِلَّا حَقًّا، وَلَا تُؤْذِيَ قَلْبًا، وَلَا تُفَرِّطَ فِيهِ، وَتَقْتَصِرَ عَلَيْهِ أَحْيَانًا عَلَى النُّدُورِ- فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِيهِ.وَمِنْ مُطَايَبَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَجُوزًا أَتَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ». فَبَكَتْ، فَقَالَ لَهَا: «إِنَّكِ لَسْتِ بِعَجُوزٍ يَوْمَئِذٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الْوَاقِعَةِ: 35- 36]» وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي يَدْعُوكَ قَالَ: «وَمَنْ هُوَ؟ أَهُوَ الَّذِي بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ؟» قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ، قَالَ: «بَلَى إِنَّ بِعَيْنِهِ بَيَاضًا»، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَبِعَيْنِهِ بَيَاضٌ». وَأَرَادَ بِالْبَيَاضِ الْمُحِيطَ بِالْحَدَقَةِ.وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ أُخْرَى فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي عَلَى بَعِيرٍ، فَقَالَ: «بَلْ نَحْمِلُكِ عَلَى ابْنِ الْبَعِيرِ» فَقَالَتْ: مَا أَصْنَعُ بِهِ؟! إِنَّهُ لَا يَحْمِلُنِي، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ بَعِيرٍ إِلَّا وَهُوَ ابْنُ بَعِيرٍ».وَقَالَ أنس: كَانَ لأبي طلحة ابْنٌ يُقَالُ لَهُ أبو عمير، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْتِيهِمْ وَيَقُولُ: «أبا عمير، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟!» النُّغَيْرُ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، وَهُوَ فَرْخُ الْعُصْفُورِ.وَقَالَتْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَقَالَ: «تَعَالِي حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَشَدَدْتُ عَلَيَّ دِرْعِي، ثُمَّ خَطَطْنَا خَطًّا فَقُمْنَا عَلَيْهِ وَاسْتَبَقْنَا، فَسَبَقَنِي وَقَالَ: «هَذِهِ مَكَانَ ذِي الْمَجَازِ» وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ يَوْمًا وَنَحْنُ بِذِي الْمَجَازِ وَأَنَا جَارِيَةٌ، فَقَدْ بَعَثَنِي أَبِي بِشَيْءٍ، فَقَالَ: «أَعْطِينِيهِ»، فَأَبَيْتُ وَسَعَيْتُ، وَسَعَى فِي أَثَرِي فَلَمْ يُدْرِكْنِي.وَقَالَتْ أَيْضًا: كَانَ عِنْدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسودة بنت زمعة، فَصَنَعْتُ خَزِيرًا وَجِئْتُ بِهِ، فَقُلْتُ لسودة: كُلِي، فَقَالَتْ: لَا أُحِبُّهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَتَأْكُلِنَّ أَوْ لَأُلَطِّخَنَّ بِهِ وَجْهَكِ، فَقَالَتْ: مَا أَنَا ذَائِقَتُهُ، فَأَخَذْتُ بِيَدِي مِنَ الصَّحْفَةِ شَيْئًا مِنْهُ فَلَطَّخْتُ بِهِ وَجْهَهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَخَفَضَ لَهَا رُكْبَتَهُ لِتَسْتَقِيدَ، فَتَنَاوَلَتْ مِنَ الصَّحْفَةِ شَيْئًا فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ.وَعَنْ أبي سلمة أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْلِعُ لِسَانَهُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَيَرَى الصَّبِيُّ لِسَانَهُ فَيَهَشُّ لَهُ.وَقَالَ: عيينة الفزاري: وَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِيَ الِابْنُ قَدْ تَزَوَّجَ وَبَقَلَ وَجْهُهُ وَمَا قَبَّلْتُهُ قَطُّ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ».فَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمُطَايَبَاتِ مَنْقُولَةٌ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَالَجَةً لِضَعْفِ قُلُوبِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ إِلَى هَزْلٍ.وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً لصهيب وَبِهِ رَمَدٌ وَهُوَ يَأْكُلُ تَمْرًا: «أَتَأْكُلُ التَّمْرَ وَأَنْتَ رَمِدٌ» فَقَالَ: إِنَّمَا آكُلُ بِالشِّقِّ الْآخَرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَبَسَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى نَوَاجِذِهِ.وَكَانَ نعيمان الأنصاري رَجُلًا مَزَّاحًا، لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ طَرْفَةً إِلَّا اشْتَرَى مِنْهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا قَدِ اشْتَرَيْتُهُ لَكَ وَأَهْدَيْتُهُ لَكَ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا يَتَقَاضَاهُ بِالثَّمَنِ جَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِهِ ثَمَنَ مَتَاعِهِ فَيَقُولُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَلَمْ تُهْدِهِ لَنَا؟!» فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي ثَمَنُهُ وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَأْكُلَ مِنْهُ فَيَضْحَكُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُ لِصَاحِبِهِ بِثَمَنِهِ. فَهَذِهِ مُطَايَبَاتٌ يُبَاحُ مِثْلُهَا عَلَى النُّدُورِ لَا عَلَى الدَّوَامِ.
|